الفصل الثاني عشر
ويردّ هذه الأحاديثَ ويدفعها اتّفاقُ أئمّة أهل البيت النبويّ الطاهر عليهم الصلاة والسلام ، وإجماع شيعتهم - تبعاً لهم (127) - على إثبات سِمَة الإيمان لأبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه والقول بنجاته ، وإنكارهم حديثَ الضَّحْضاح ، وعدّهم إيّاه من الموضوعات القِباح .
وإجماعهم عليهم السلام حُجّة بلا ريب ، لآية التطهير ، وحديث الثقلين المتواتر ، وحديث السفينة ، وغير ذلك من الأدلّة المقرَّرة في محلّها (128) ، فحديثٌ يخالفُ الإجماعَ القطعيّ يُضرب به عرض الجدار ولا كرامَة .
ونحن نقتصر في هذا المختصر على سَرْد ما ورد عنهم عليهم السلام في ردّ حديث الضَّحْضاح وإبطاله ، ونكتفي بذلك في الدلالة على وضعه وافتعاله ، دون ما روي في ثبوت إسلام شيخ الأباطح وصحّة إيمانه ، فإنّ ذلك مقرَّرٌ مبسوطٌ في مظانّه ، فنقول - وبالله تعالى التوفيق - :
أخرج الشيخ العلّامة أبو الفتح الكراجكيّ رحمه الله في (كنز الفوائد) (129) بإسناده عن أبي عبد الله ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام : أنّه كان ذاتَ يومٍ جالساً في الرَّحْبة والناس حوله ، فقام إليه رجلٌ فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّك بالمكان الذي أنزلك الله ، وأبوك معذَّبٌ في النار ؟ فقال له : مَهْ ، فَضَّ الله فاكَ ، والذي بعثَ محمّداً صلى الله عليه وآله بالحقّ نبيّاً لو شفع أبي في كلّ مذنبٍ على وجه الأرض لشفّعه الله ، أأبي يُعذَّب بالنار وابنهُ قسيم الجنّة والنار ؟! الحديث .
وأخرج الإمام شمس الدين فخّار بن مَعَدٍّ العلوي رحمه الله تعالى في كتاب (الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالبٍ) (130) بإسناده عن أبي بصيرٍ - ليث المراديّ - قال : قلت لأبي جعفرٍ عليه السلام : سيّدي : إنّ الناس يقولون : إنّ أبا طالبٍ في ضَحْضاح من نارٍ يغلي منه دِماغه ، فقالعليه السلام : كذبوا والله ، إنّ إيمان أبي طالبٍ لو وُضِعَ في كفّة ميزانٍ وإيمان هذا الخلق في كفّة ميزانٍ لَرَجَح إيمان أبي طالبٍ على إيمانهم ، ثمّ قال : كان - والله - أميرُ المؤمنين يأمر أنْ يُحجَّ عن أب النبيّ صلى الله عليه وآله وأُمّه ، وعن أبي طالبٍ ؛ في حياته ، ولقد أوصى في وصيّته بالحجّ عنهم بعد مماته .
وأخرج الكراجكيّ أيضاً في (كنز الفوائد) (131) بإسناده إلى أبان بن محمّدٍ ، عن يونس بن نُباتة ، عن أبي عبد اللهعليه السلام أنّه قال : يا يونس ، ما يقول الناس في أبي طالبٍ ؟ قلتُ : جُعلت فداك ، يقولون : هو في ضَحْضاح من نارٍ ، وفي رجلَيْه نعلان من نارٍ تغلي منها أُمّ رأسه ، فقال : كَذَبَ أعداءُ الله ، إنّ أبا طالبٍ من رفقاء النبيّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين { وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً } .
وأخرج ابن مَعَدٍّ رحمه الله أيضاً بإسناده عن عبد الرحمن بن كثيرٍ ، قال : قلت لأبي عبد اللهعليه السلام : إنّ الناس يزعمون أنّ أبا طالبٍ في ضَحْضاحٍ من نارٍ ، فقال : كذبوا ، ما بهذا نزل جبرئيل على النبيّ صلى الله عليه وآله قلت : وبما نزل ؟ قال : أتى جبرئيلُ في بعض ما كان عليه فقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول لك : إنّ أصحاب الكهف أَسَرُّوا الإيمان وأظهروا الشِّرك ، فآتاهم الله أجرَهم مرّتين ، وإنّ أبا طالبٍ أَسَرَّ الإيمان وأظهر الشِّركَ فآتاه الله أجرَه مرّتين ، وما خرج من الدُّنيا حتّى أتته البشارة من الله تعالى بالجنّة ، ثمّ قال : كيف يَصِفُونَه بهذا الملاعين وقد نزل جبرئيلُ ليلة مات أبو طالبٍ ، فقال : يا محمّد ، اخْرُج من مكّة ، فما لك بها ناصرٌ بعد أبيطالبٍ (132) .
وأخرج أيضاً بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله العلويّ الحسنيّ أنّه كتب إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام : عَرِّفْني يا ابن رسول الله عن الخبر المرويّ أنّ أبا طالبٍ في ضَحْضاحٍ من نارٍ يغلي منه دِماغه ، فكتب إليه الرضا عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعدُ : فإنّك إنْ شككتَ في إيمان أبي طالبٍ كان مصيرُك إلى النار (133) .
فهذا غَيْضٌ من فيضٍ من شهادة أئمّة أهل البيت وسادات المسلمين بإيمان أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه ، وتكذيب حديث ا لضَّحْضاح ، وهم الذين قَرَنَهم النبيّ صلى الله عليه وآله بكتاب الله تعالى دلالةً على كون التمسّك بهم مُنْقِذاً من الضَّلالة ، وهم مَعْدن العلوم اللَّدُنيّة ، والأسرار والحكم العَلِيَّة ، والأحكام الشرعيّة ، ولذا حَثَ صلى الله عليه وآله على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم وقال : الحمد للَّه الذي جعل فينا الحكمةَ أهلَ البيت (134) ، فيلزم العمل بروايتهم والاعتماد على مقالتهم (135) { فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } .
_________________________________
127ـ اُنظر : روضة الواعظين : 1 / 138 - الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف : 1 / 298- الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : 64 - شرح نهج البلاغة : 14 - 65 - الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة : 48 - روح المعاني : 20 / 97 - بلوغ المآرب : 191 - الغدير : 7 / 384 - 385 .
128ـ اُنظر : دراسات اللبيب في الأُسوة الحسنة بالحبيب : 237 .
129ـ كنز الفوائد: 1 / 183 - أمالي الطوسيّ (أمالي ابن الشيخ): 702.
130ـ الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : 84 - 85 .
131ـ كنز الفوائد : 1 / 183 - الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : 82 - 83 .
132ـ الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالبٍ : 83 - 84 .
133ـ الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالبٍ : 82 .
134ـ الصواعق المحرقة : 151 .
135ـ مرقاة المفاتيح : 5 / 600 .