قال اليعقوبي في تاريخه 2: 140 في بيعته عثمان واستخلافه: مال قوم مع علي ابن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان، فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها وهو يقول: واعجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله، أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم عناءا في الاسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الظاهر النقي، وما أرادوا إصلاحا للأمة، ولا صوابا في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين.
فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو وهذا الرجل علي بن أبي طالب، قال فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر بهذا فأعينك عليه؟
فقال: يا ابن أخي! إن هذا الأمر لا يجزي فيه الرجل ولا الرجلان، ثم خرجت فلقيت أبا ذر فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي المقداد، ثم أتيت عبد الله بن مسعود فذكرت ذلك له، فقال لقد أخبرنا فلم نأل.
وذكر ابن عبد ربه في العقد 2: 260 في حديث بيعة عثمان: فقال عمار بن ياسر (لعبد الرحمن): إن أردت أن لا يختلف المسلمون؟ فبايع عليا، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار إن بايعت عليا قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش؟ فبايع عثمان، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال:
متى كنت تنصح المسلمين؟ فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار: أيها الناس إن الله أكرمنا بنبينا وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم؟ فقال له رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟ فقال سعد بن أبي وقاص: أفزع قبل أن يفتتن الناس، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ثم دعا عثمان فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده. فقال: نعم. فبايعه فقال علي حبوته محاباة ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا، أما والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا، فخرج علي و هو يقول: سيبلغ الكتاب أجله، قال المقداد: أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، فقال: يا مقداد! والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين. ثم قال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم، ولا أقضى منهم بالعدل، ولا أعرف بالحق، أما والله لو أجد أعوانا.
قال له عبد الرحمن: يا مقداد! اتق الله فإني أخشى عليك الفتنة. وأخرج الطبري نحوه في تاريخه 5: 37، وذكره ابن الأثير في الكامل 3: 29، 30، وابن أبي الحديد في شرح النهج 1: 65.
وفي لفظ المسعودي في المروج 1: 440: فقام عمار في المسجد فقال: يا معشر قريش! أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وههنا مرة فما أنا بآمن أن ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله، وقام المقداد فقال: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وما أنت وذاك يا مقداد بن عمرو؟ فقال: إني والله لأحبهم بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن الحق معهم وفيهم يا عبد الرحمن! أعجب من قريش - وأنت تطولهم على الناس أهل هذا البيت - قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده من أيديهم، أما وأيم الله يا عبد الرحمن! لو أجد على قريش أنصار لقاتلتهم كقتالي إياهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وجرى بينهم من الكلام خطب طويل قد أتينا ذكره في كتابنا أخبار الزمان في أخبار الشورى والدار.
ومر في هذا الجزء ص 17: أن المقداد أحد الجمع الذين كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان وخوفوه ربه وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع. راجع حديث البلاذري المذكور.
قال الأميني: لعلك تعرف المقداد ومبلغه من العظمة، ومبوأه من الدين، ومثواه من الفضيلة، قال أبو عمر: كان من الفضلاء النجباء الكبار الخيار هاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد كلها، أول من حارب فارسا في الاسلام. كان فارسا يوم بدر، ولم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره، وهو عند القوم أحد السبعة الذين أظهروا الاسلام، وأحد النجباء الأربعة عشر وزراء رسول الله ورفقائه (1) سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوابا كما في حديث أخرجه أبو عمر في " الاستيعاب ".
وأنى يسع للباحث أن يستكنه ما لهذا الصحابي العظيم من الفضائل أو يدرك شأوه وبين يديه قول رسول الله صلى الله عليه وآله في الثناء عليه: إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: علي. والمقداد. وأبو ذر. وسلمان؟ (2).
وقوله صلى الله عليه وآله: إن الجنة تشتاق إلى أربعة: علي. وعمار و سلمان. والمقداد أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 142.
فهذا الرجل الديني الذي يحبه الله ويأمر نبيه صلى الله عليه وآله بحبه كان ناقما على الخليفة واجدا على خلافته من أول يومه، متلهفا على استخلافه تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها، وكان يثبط الناس ويخذلهم عنه، ويرى امرأته إمرا من الأمر وإدا، يعتقدها ظلما على أهل بيت العصمة، ويستنجد أعوانا يقاتل بهم مستخلفيه كقتاله إياهم يوم بدر، هذا رأيه في عثمان من يوم الشورى قبل بوائقه، فكيف بعد ما شاهد منه من هنات وهنات.
___________
(1) مستدرك الحاكم 3: 348، 349، الاستيعاب 1: 289، أسد الغابة 4: 410، الإصابة 3: 455.
(2) أخرجه الترمذي في جامعه، وأبو عمر بن الاستيعاب 1: 290، وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 4، 410، وابن حجر في الإصابة 3: 455.
9 - حديث المقداد ابن الأسود الكندي فارس يوم بدر
- الزيارات: 3236