• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الغلو في فضايل عثمان : 41 - الخليفة يخرج ابن مسعود من المسجد عنفا

أخرج البلاذري في الأنساب 5: 36 قال: حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف وعوانة في إسنادهما: إن عبد الله بن مسعود حين ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة قال: من غير غير الله ما به. ومن بدل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلا وقد غير وبدل، أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولى الوليد؟ وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو:
إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (1) فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال: إن يعيبك ويطعن عليك، فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه فاجتمع الناس فقالوا: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شئ تكرهه، فقال: إن له علي حق الطاعة ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن. وفي لفظ أبي عمر: إنها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أول من فتحها. فرد الناس وخرج إليه (2).
قال البلاذري: وشيعه أهل الكوفة فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن فقالوا له: جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا، وثبت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل، ثم ودعوه وانصرفوا، وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقئ ويسلح، فقال ابن مسعود: لست كذلك ولكني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة: أي عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجا عنيفا، وضرب به عبد الله ابن زمعة الأرض، ويقال: بل احتمله " يحموم " غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه، فقال علي: يا عثمان! أتفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الوليد بن عقبة؟ فقال: ما بقول الوليد فعلت هذا ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة فقال له ابن مسعود: إن دم عثمان حلال، فقال علي: أحلت عن زبيد على غير ثقة.
وفي لفظ الواقدي: إن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال: يا أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة، من يمشي على طعامه يقئ ويسلح، فقال ابن مسعود: لست كذلك ولكنني صاحب رسول الله يوم بدر، و صاحبه يوم بيعة الرضوان، وصاحبه يوم الخندق، وصاحبه يوم حنين. قال: وصاحت عائشة: يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ فقال عثمان: اسكتي. ثم قال لعبد الله ابن زمعة: أخرجه إخراجا عنيفا، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه، فقال ابن مسعود: قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.
قال البلاذري: وقام علي بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي، وأراد حين برئ الغزو فمنعه من ذلك وقال له مروان: إن ابن مسعود أفسد عليك العراق، أفتريد أن يفسد عليك الشام؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين، وكان مقيما بالمدينة ثلاث سنين.
وقال قوم: إنه كان نازلا على سعد بن أبي وقاص، ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا آمر لك بعطائك؟ (3) قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه؟ قال: يكون لولدك، قال: رزقهم على الله. قال: إستغفر لي يا أبا عبد الرحمن، قال: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي، وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم فلما علم غضب، وقال: سبقتموني به؟ فقال له عمار بن ياسر: إنه أوصى أن لا تصلي عليه.
فقال ابن الزبير (4):

لأعرفنك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي

وفي لفظ ابن كثير في تاريخه 7: 163: جاءه عثمان في مرضه عائدا فقال له: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: لا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطائك؟ - وكان قد تركه سنتين - فقال: لا حاجة لي. فقال: يكون لبناتك من بعدك، فقال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا.
وقال البلاذري: كان الزبير وصي ابن مسعود في ماله وولده، وهو كلم عثمان في عطائه بعد وفاته حتى أخرجه لولده، وأوصى ابن مسعود أن يصلي عليه عمار بن ياسر، وقوم يزعمون أن عمارا كان وصيه ووصية الزبير أثبت.
وأخرج البلاذري من طريق أبي موسى القروي بإسناده: إنه دخل عثمان على ابن مسعود في مرضه فاستغفر كل واحد منهما لصاحبه، فلما انصرف عثمان قال بعض من حضر: إن دمه لحلال. فقال ابن مسعود: ما يسرني أنني سددت إليه سهما يخطئه وأن لي مثل أحد ذهبا.
وقال الحاكم وأبو عمرو ابن كثير: أوصى ابن مسعود إلى الزبير بن العوام فيقال:
إنه هو الذي صلى عليه ودفنه بالبقيع ليلا بإيصائه بذلك إليه ولم يعلم عثمان بدفنه، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل: بل صلى عليه عثمان، وقيل: عمار (5).
وفي رواية توجد في شرح ابن أبي الحديد 1: 236: لما حضره الموت قال:
من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها؟ فسكت القوم وعرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار: أنا أقبلها، فقال ابن مسعود: أن لا يصلي علي عثمان. قال: ذلك لك، فيقال: إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل: إن عمارا ولي الأمر. فقال لعمار:
ما حملك على أن لم تؤذني؟ فقال: عهد إلي أن لا أوذنك. إلخ. وذكر كل ما رويناه عن البلاذري مع زيادة، فراجع.
وفي لفظ اليعقوبي: إعتل ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي إنك أمرت بي فوطئ جوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك.
قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك فخذه، قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه. وتعطينيه وأنا غني عنه، لا حاجة لي به. فانصرف فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي. تاريخ اليعقوبي 2: 147.
وأخرج محمد بن إسحاق بن محمد بن كعب القرظي: إن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر. شرح ابن أبي الحديد 1: 237.
وفي تاريخ الخميس 2: 268: حبس (عثمان) عبد الله بن مسعود وأبي ذر عطاءهما وأخرج أبا ذر إلى الربذة وكان بها إلى أن مات. وأوصى (عبد الله) إلى الزبير وأوصاه أن يصلي عليه ولا يستأذن عثمان لئلا يصلي عليه، فلما دفن وصل عثمان ورثته بعطاء أبيهم خمس سنين. وأجاب بأن عثمان كان مجتهدا ولم يكن من قصده حرمانه، إما التأخير إلى غاية أدبا، إما مع حصول تلك الغاية أو دونها وصل به ورثته ولعله كان أنفع له.
وفي السيرة الحلبية 2: 87 من جملة ما انتقم به على عثمان: إنه حبس عبد الله ابن مسعود وهجره، وحبس عطاء أبي بن كعب، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية، وضرب عمار بن ياسر وكعب بن عبدة ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال، وقال لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق. الخ.
قال الأميني؟ لعلك لا تستكنه هذه الجرأة ولا تبلغ مداها حتى تعلم أن ابن مسعود من هو، فهنالك تؤمن بأن ما فعل به حوب كبير لا يبرر من ارتكب به أي عذر معقول فضلا عن التافهات.
1 - أخرج مسلم وابن ماجة من طريق سعد بن أبي وقاص قال نزل قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين " الأنعام 52 " في ستة نفر منهم عبد الله بن مسعود.
راجع تفسير الطبري 7: 128، المستدرك للحاكم 3: 319، تاريخ ابن عساكر 6: 100، تفسير القرطبي 16: 432، 433، تفسير ابن كثير 2: 135، تفسير ابن جزي 2: 10، تفسير الدر المنثور 3: 13، تفسير الخازن 2: 18، تفسير الشربيني 1: 404، تفسير الشوكاني 2: 115.
2 - أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى 3: 108 ط ليدن من طريق عبد الله بن مسعود نزول قوله تعالى: الذين استجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " آل ب عمران 172 " في ثمانية عشر رجلا هو أحدهم.
وذكر ابن كثير والخازن في تفسيرهما: إن ابن مسعود ممن نزلت فيهم الآية.
3 - ذكر الشربيني والخازن نزول قوله تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة. في ابن مسعود وعمار وسلمان. يأتي تفصيله بعيد هذا في ترجمة عمار.
4 - عن علي عليه السلام مرفوعا: عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من أحد.
وفي لفظ: والذي نفسي بيده لهما (يعني ساقي ابن مسعود) أثقل في الميزان من أحد.
وفي لفظ: والذي نفسي بيده لساقا عبد الله يوم القيامة أشد وأعظم من أحد وحراء.
راجع مستدرك الحاكم 3: 317، حلية الأولياء 1: 127، الاستيعاب 1: 371، صفة الصفوة 1: 157، تاريخ ابن كثير 7: 163، الإصابة 2: 370، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 289، وقال: أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة، ورواه من طريق البزار والطبراني فقال: رجالهما رجال الصحيح. كنز العمال 6: 180، 181، ج 7: 55 نقلا عن الطبراني والضياء وابن خزيمة وصححه.
5 - عن علقمة وعمر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سره أن يقرأ القرآن غضا. أو: رطبا، كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.
أخرجه أبو عبيد في فضائله. أحمد. الترمذي. النسائي. البخاري في تاريخه. ابن أبي خزيمة. ابن أبي داود. ابن الأنباري. عبد الرزاق. ابن حبان. الدارقطني ابن عساكر. أبو نعيم. الضياء المقدسي. البزار. الطبراني. أبو يعلى. وغيرهم.
راجع سنن ابن ماجة 1: 63، حلية الأولياء 1: 124، مستدرك الحاكم 3: 318، الاستيعاب 1: 371، صفة الصفوة 1: 156، طرح التثريب 1: 85، الإصابة 2: 369، مجمع الزوائد 9: 287، كنز العمال 6: 181.
6 - عن أبي الدرداء مرفوعا في حديث: رضيت لأمتي ما رضي الله لها وابن أم عبد، وسخطت لأمتي ما سخط الله لها وابن أم عبد.
أخرجه البزار والطبراني ورجال البزار ثقات كما قاله الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 290، ورواه الحاكم في المستدرك 3: 317، 318 وأبو عمر في الاستيعاب 1: 371 ويوجد في كنز العمال 6: 181 و ج 7: 56.
7 - عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: آذنك على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي (6) حتى أنهاك. قال ابن حجر: أخرجه أصحاب الصحاح.
مسند أحمد 1: 388، سنن ابن ماجة 1: 63، حلية الأولياء 1: 126، الاستيعاب 1: 371، تاريخ ابن كثير 7: 162، الإصابة 2: 369.
8 - أخرج الترمذي من طريق عبد الله في حديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمسكوا بعهد ابن أم عبد.
وفي لفظ أحمد: تمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه.
راجع مسند أحمد 5: 385، حلية الأولياء 1: 128، تاريخ ابن كثير 2: 162، الإصابة 2: 369، كنز العمال 7: 55.
9 - سئل علي (أمير المؤمنين) عن ابن مسعود قال: علم القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفى به علما.
راجع حلية الأولياء لأبي نعيم 1: 129، المستدرك للحاكم 3: 318، الاستيعاب 1: 373، صفة الصفوة 1: 157.
10 - أخرج الحاكم في المستدرك 3: 315 من طريق حبة العرني قال: إن ناسا أتوا عليا فأثنوا على عبد الله بن مسعود فقال: أقول فيه مثل ما قالوا وأفضل: من قرأ القرآن وأحل حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة.
11 - أخرج الترمذي بإسناد رجاله ثقات من طريق حذيفة بن اليمان: إن أشبه الناس هديا ودلا وسمتا بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله.
وفي لفظ البخاري: ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد، وزاد الترمذي: ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى. وفي لفظ أبي نعيم: إنه من أقربهم وسيلة يوم القيمة. وفي لفظ أبي عمر: سمع حذيفة يحلف بالله ما أعلم أحدا أشبه دلا وهديا برسول الله من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة.
وفي لفظ علقمة: كان يشبه بالنبي في هديه ودله وسمته.
راجع صحيح البخاري كتاب المناقب. مسند أحمد 5: 389، المستدرك 3: 315، 320 حلية الأولياء 1: 126، 127، الاستيعاب 1: 372، مصابيح السنة 2: 283، صفة الصفوة 1: 156، 158، تاريخ ابن كثير 2: 162، تيسير الوصول 3: 297 الإصابة 2: 369، كنز العمال 7: 55.
12 - أخرج الشيخان والترمذي عن أبي موسى قال: قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نرى من دخوله و دخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم.
راجع المستدرك للحاكم 3: 314، مصابيح السنة: 2: 284، تيسير الوصول 3: 279 نقلا عن الشيخين والترمذي، تاريخ ابن كثير 7: 162، مرآة الجنان لليافعي 1: 87، الإصابة 8: 369 قال: عند البخاري في التاريخ بسند صحيح.
13 - أخرج أحمد في مسنده 4: 203 من طريق عمرو بن العاصي قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحب عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 290 بلفظ: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنه. حكاه عن أحمد والطبراني فقال. رجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه ابن عساكر من طريق عثمان بن أبي العاص الثقفي كما في كنز العمال: 7: 56.
14 - أخرج البخاري من طريق عبد الله بن مسعود قال: أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان. وفي لفظ: أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت وله ذؤابة يلعب مع الغلمان. وفي لفظ: ما ينازعني فيها أحد.
حلية الأولياء 1: 125، والاستيعاب 1: 373، تهذيب التهذيب 6: 28 وصححه كنز العمال 7: 56 نقلا عن ابن أبي داود.
15 - أخرج البغوي من طريق تميم بن حرام (7) قال: جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أحدا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أحب إلي أن أكون في صلاحه من ابن مسعود، الإصابة لابن حجر 2: 370.
وأخرجه البخاري في تاريخه 1 قسم 2 ص 152 ولفظه: أدركت أبي بكر وعمر وأصحاب محمد عليهم السلام فما رأيت أحدا. الخ.
16 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: كان عبد الله صاحب سواد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني سره.
وعن أبي الدرداء: ألم يكن فيكم صاحب السواد عبد الله؟.
وعن عبد الله بن شداد: إن عبد الله كان صاحب السواد والوساد والسواك والنعلين (8) راجع طبقات ابن سعد 3: 108، حلية الأولياء 1: 126، الاستيعاب 1: 371، صفة الصفوة 1: 156، طرح التثريب 1: 75.
17 - عن أبي وائل قال ابن مسعود: إني لأعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم و ما في كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ومتى نزلت. قال أبو وائل: فما سمعت أحدا أنكر ذلك عليه.
أخرجه الشيخان والنسائي كما في تيسير الوصول 3: 279، وأبو عمر في الاستيعاب 1: 372، وذكره اليافعي في مرآته 1: 87.

هذا ابن مسعود
وهذا علمه وهديه وسمته وصلاحه وزلفته إلى نبي العظمة صلى الله عليه وآله، أضف إلى ذلك كله سابقته في الاسلام وهو سادس ستة، وهجرته إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهوده بدرا ومشاهد النبي صلى الله عليه وآله كلها، وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة كما في رواية أبي عمر في الاستيعاب، ولعلك لا تشك بعد سيرك الحثيث في غضون السيرة والتاريخ في أنه لم يكن له دؤب إلا على نشر علم القرآن وسنة الرسول وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وتثبيت القلوب، وشد أزر الدين، في كل ذلك هو شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هديه و سمته ودله، فلا تجد فيه مغمزا لغامز، ولا محلا للمز لامز، وقد بعثه عمر إلى الكوفة ليعلمهم أمور دينهم، وبعث عمارا أميرا وكتب إليهم: إنهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (9) وقد سمعت ثناء أهل الكوفة عليه بقولهم: جزيت خيرا، فلقد علمت جاهلنا وثبت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل.
كان ابن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة، اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟
فقال عبد الله بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. رافعا بها صوته. الرحمن علم القرآن. قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: وتأملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن. ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون (10).
وقد هذبته تلكم الأحوال وكهربته، فلم يسق لمغضبة على باطل، ولم يحده طيش إلى غاية، فهو إن قال فعن هدى، وإن حدث فعن الصادع الكريم صدقا، وإن جال ففي مستوى الحق، وإن صال فعلى الضلالة، وعرفه بذلك من عرفه من أول يومه، وكان معظما مبجلا لدى الصحابة وكانوا يحذرون خلافه والرد عليه ويعدونه حوبا قال أبو وائل: إن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك. فقال: و أنت يا ابن مسعود! فارفع إزارك. فقال: إني لست مثلك إن بساقي حموشة وأنا آدم الناس فبلغ ذلك عمر فضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود؟ (11).
وأخرج أبو عمر بن الاستيعاب 1: 372 بالإسناد عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات فقال: جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يحكي المصحف عن ظهر قلبه فغضب عمر غضبا شديدا وقال: ويحك ومن هو؟ قال عبد الله بن مسعود. قال: فذهب عنه ذلك الغضب وسكن وعاد إلى حاله وقال: والله ما أعلم من الناس أحدا هو أحق بذلك منه.
فلماذا يحرم هذا البدري العظيم عطاؤه سنين؟ ثم يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهرا بالصلة فلا يقبلها ابن مسعود وهو في منصرم عمره، ويسأل ربه أن يأخذ له منه بحقه، ثم يتوجه إلى النعيم الخالد معرضا عن الحطام الزائل، موصيا بأن لا يصلي عليه من نال منه ذلك النيل الفجيع.
لماذا فعل به هذا؟ ولماذا شتم على رؤس الاشهاد؟ ولماذا أخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهانا عنفا، ولماذا ضرب به الأرض فدقت أضالعه؟ ولما بطشوا به بطش الجبارين؟.
كل ذلك لأنه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال الكوفة يوم كان عليه ما أمر به، فألق مفاتيح بيت المال لما لم يجد من الكتاب والسنة وهو العليم بهما مساغا لهاتيك الإباحة ولا لأثرة الآمر بها، وعلم أنها سوف تتبعها من الأعطيات التي لا يقرها كتاب ولا سنة، فتسلل عن عمله وتنصل، وما راقه أن يبوء بذلك الإثم، فلهج بما علم، وأبدى معاذيره في إلقاء المفاتيح، فغاض تلكم الأحوال داعية الشهوات، وشاخص الهوى الوليد بن عقبة، فكتب في حقه ونم وسعي، فكان من ولائد ذلك أن ارتكب من ابن مسعود ما عرفت، ولم تمنع عن ذلك سوابقه في الاسلام وفضائله وفواضله وعلمه وهديه وورعه ومعاذيره وحججه، فضلا على أن يشكر على ذلك كله، فأوجب نقمة الصحابة على من نال ذلك منه، وإنكار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وصيحة أم المؤمنين في خدرها، ولم تزل البغضاء محتدمة على هذه وأمثالها حتى كان في مغبة الأمر ما لم يحمده خليفة الوقت وزبانيته الذين جروا إليه الويلات.
ولو ضرب المسيطر على الأمر صفحا عن الفظاظة في الانتقام، أو أعار لنصح صلحاء الأمة أذنا واعية، أولم يستبدل بجراثيم الفتن عن محنكي الرجال، أولم ينبذ كتاب الله وسنة نبيه وراء ظهره، لما استقبله ما جرى عليه وعلى من اكتنفه من الوأد والهوان لكنه لم يفعل ففعلوا، ولمحكمة العدل الإلهي غدا حكمها البات.
ولابن مسعود عند القوم مظلمة أخرى وهي جلده أربعين سوطا في موقف آخر، لماذا كان ذلك؟ لأنه دفن أبا ذر لما حضر موته في حجته. وجد بالربذة في ذلك الوادي القفر الوعر ميتا كان في الغارب والسنام من العلم والإيمان.
وجد صحابيا عظيما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقربه ويدنيه قد فارق الدنيا.
وجد عالما من علماء المسلمين قد غادرته الحياة.
وجد مثالا للقداسة والتقوى، فتمثل أمام عينيه تلك الصورة المكبرة التي كان يشاهدها على العهد النبوي.
وجد شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة هديا وسمتا ونسكا وزهدا وخلقا، طرده خليفة الوقت عن عاصمة الاسلام.
وجد عزيزا من أعزاء الصحابة على الله ورسوله وعلى المؤمنين قد أودى على مستوى الهوان في قاعة المنفى مظلوما مضطهدا.
وجد في قارعة الطريق جثمان طيب طاهر غريب وحيد نازح عن الأوطان تصهره الشمس، وتسفي عليه الرياح، وذكر قول رسول الله: رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده، ويحشر وحده.
فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كل مسلم فضلا عن أبي ذر الذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الأخير والعيون عبرى، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الانسان المبجل، فلما هبطوا يثرب نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا كبيرا، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطا، وذلك أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطم جيفته فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم، وموئل التقوى، ومنبثق الإيمان، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا.
أي خليفة هذا لم يراع حرمة ولا كرامة لصلحاء الأمة وعظماء الصحابة من البدريين الذين نزل فيهم القرآن، وأثنى عليهم النبي العظيم؟ وقد جاء في مجرم بدري قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال عمر: إئذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه: مهلا يا ابن الخطاب إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: إعملوا ما شئتم فإني غافر لكم (12) واختلق القوم حديثا لإدخال عثمان في زمرتهم لفضلهم المتسالم عليه عند الأمة جمعاء، كأن الرجل آلى على نفسه أن يطل على الأمة الداعية إلى الخير، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، بالذل والهوان، ويسر بذلك سماسرة الأهواء من بني أبيه، فطفق بمراده، والله من ورائهم حسيب.
والمدافع إن أعوزته المعاذير تشبث بالطحلب فقال: (13) حداه إلى ذلك الاجتهاد. ذلك العذر العام المصحح للأباطيل، والمبرر للشنايع، والوسيلة المتخذة لإغراء بسطاء الأمة، وذلك قولهم بأفواهم، وإن ربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وإن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
____________
(1) هذه جملة من كلمة ابن مسعود وقد أخرجها برمتها أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 138 وهي كلمة قيمة فيها فوائد جمة.
(2) الاستيعاب 1: 373.
(3) قال ابن كثير في تاريخه 7: 163: كان قد تركه سنتين.
(4) كذا والصحيح كما في شرح ابن أبي الحديد 1: 236: فتمثل الزبير.
(5) المستدرك 3: 313، الاستيعاب 1: 373، تاريخ ابن كثير 7: 163.
(6) كذا في جميع المصادر والسواد بالكسر: السرار. يقال: ساودت الرجل أي ساورته. وحسبه ناشر حلية الأولياء غلطا فجعله في المتن " سرارى " وقال في التعليق: في الأصلين: سوادي.
(7) في تاريخ البخاري: حذلم.
(8) كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وآله ويحمل نعليه. قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب 6: 28.
(9) الاستيعاب 1: 373، ج 2 436، الإصابة 2: 369.
(10) سيرة ابن هشام 1: 337.
(11) الإصابة 2: 370، كنز العمال: 55.
(12) أحكام القرآن 3: 535.
(13) راجع التمهيد للباقلاني ص 221، الرياض النضرة 26 145، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس 2: 268.
الغلو في فضايل عثمان : 41 - الخليفة يخرج ابن مسعود من المسجد عنفا
أخرج البلاذري في الأنساب 5: 36 قال: حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف وعوانة في إسنادهما: إن عبد الله بن مسعود حين ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة قال: من غير غير الله ما به. ومن بدل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلا وقد غير وبدل، أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولى الوليد؟ وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو:
إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (1) فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال: إن يعيبك ويطعن عليك، فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه فاجتمع الناس فقالوا: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شئ تكرهه، فقال: إن له علي حق الطاعة ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن. وفي لفظ أبي عمر: إنها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أول من فتحها. فرد الناس وخرج إليه (2).
قال البلاذري: وشيعه أهل الكوفة فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن فقالوا له: جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا، وثبت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل، ثم ودعوه وانصرفوا، وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقئ ويسلح، فقال ابن مسعود: لست كذلك ولكني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة: أي عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجا عنيفا، وضرب به عبد الله ابن زمعة الأرض، ويقال: بل احتمله " يحموم " غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه، فقال علي: يا عثمان! أتفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الوليد بن عقبة؟ فقال: ما بقول الوليد فعلت هذا ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة فقال له ابن مسعود: إن دم عثمان حلال، فقال علي: أحلت عن زبيد على غير ثقة.
وفي لفظ الواقدي: إن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال: يا أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة، من يمشي على طعامه يقئ ويسلح، فقال ابن مسعود: لست كذلك ولكنني صاحب رسول الله يوم بدر، و صاحبه يوم بيعة الرضوان، وصاحبه يوم الخندق، وصاحبه يوم حنين. قال: وصاحت عائشة: يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ فقال عثمان: اسكتي. ثم قال لعبد الله ابن زمعة: أخرجه إخراجا عنيفا، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه، فقال ابن مسعود: قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.
قال البلاذري: وقام علي بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي، وأراد حين برئ الغزو فمنعه من ذلك وقال له مروان: إن ابن مسعود أفسد عليك العراق، أفتريد أن يفسد عليك الشام؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين، وكان مقيما بالمدينة ثلاث سنين.
وقال قوم: إنه كان نازلا على سعد بن أبي وقاص، ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا آمر لك بعطائك؟ (3) قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه؟ قال: يكون لولدك، قال: رزقهم على الله. قال: إستغفر لي يا أبا عبد الرحمن، قال: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي، وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم فلما علم غضب، وقال: سبقتموني به؟ فقال له عمار بن ياسر: إنه أوصى أن لا تصلي عليه.
فقال ابن الزبير (4):

لأعرفنك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي

وفي لفظ ابن كثير في تاريخه 7: 163: جاءه عثمان في مرضه عائدا فقال له: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: لا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطائك؟ - وكان قد تركه سنتين - فقال: لا حاجة لي. فقال: يكون لبناتك من بعدك، فقال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا.
وقال البلاذري: كان الزبير وصي ابن مسعود في ماله وولده، وهو كلم عثمان في عطائه بعد وفاته حتى أخرجه لولده، وأوصى ابن مسعود أن يصلي عليه عمار بن ياسر، وقوم يزعمون أن عمارا كان وصيه ووصية الزبير أثبت.
وأخرج البلاذري من طريق أبي موسى القروي بإسناده: إنه دخل عثمان على ابن مسعود في مرضه فاستغفر كل واحد منهما لصاحبه، فلما انصرف عثمان قال بعض من حضر: إن دمه لحلال. فقال ابن مسعود: ما يسرني أنني سددت إليه سهما يخطئه وأن لي مثل أحد ذهبا.
وقال الحاكم وأبو عمرو ابن كثير: أوصى ابن مسعود إلى الزبير بن العوام فيقال:
إنه هو الذي صلى عليه ودفنه بالبقيع ليلا بإيصائه بذلك إليه ولم يعلم عثمان بدفنه، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل: بل صلى عليه عثمان، وقيل: عمار (5).
وفي رواية توجد في شرح ابن أبي الحديد 1: 236: لما حضره الموت قال:
من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها؟ فسكت القوم وعرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار: أنا أقبلها، فقال ابن مسعود: أن لا يصلي علي عثمان. قال: ذلك لك، فيقال: إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل: إن عمارا ولي الأمر. فقال لعمار:
ما حملك على أن لم تؤذني؟ فقال: عهد إلي أن لا أوذنك. إلخ. وذكر كل ما رويناه عن البلاذري مع زيادة، فراجع.
وفي لفظ اليعقوبي: إعتل ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي إنك أمرت بي فوطئ جوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك.
قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك فخذه، قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه. وتعطينيه وأنا غني عنه، لا حاجة لي به. فانصرف فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي. تاريخ اليعقوبي 2: 147.
وأخرج محمد بن إسحاق بن محمد بن كعب القرظي: إن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر. شرح ابن أبي الحديد 1: 237.
وفي تاريخ الخميس 2: 268: حبس (عثمان) عبد الله بن مسعود وأبي ذر عطاءهما وأخرج أبا ذر إلى الربذة وكان بها إلى أن مات. وأوصى (عبد الله) إلى الزبير وأوصاه أن يصلي عليه ولا يستأذن عثمان لئلا يصلي عليه، فلما دفن وصل عثمان ورثته بعطاء أبيهم خمس سنين. وأجاب بأن عثمان كان مجتهدا ولم يكن من قصده حرمانه، إما التأخير إلى غاية أدبا، إما مع حصول تلك الغاية أو دونها وصل به ورثته ولعله كان أنفع له.
وفي السيرة الحلبية 2: 87 من جملة ما انتقم به على عثمان: إنه حبس عبد الله ابن مسعود وهجره، وحبس عطاء أبي بن كعب، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية، وضرب عمار بن ياسر وكعب بن عبدة ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال، وقال لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق. الخ.
قال الأميني؟ لعلك لا تستكنه هذه الجرأة ولا تبلغ مداها حتى تعلم أن ابن مسعود من هو، فهنالك تؤمن بأن ما فعل به حوب كبير لا يبرر من ارتكب به أي عذر معقول فضلا عن التافهات.
1 - أخرج مسلم وابن ماجة من طريق سعد بن أبي وقاص قال نزل قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين " الأنعام 52 " في ستة نفر منهم عبد الله بن مسعود.
راجع تفسير الطبري 7: 128، المستدرك للحاكم 3: 319، تاريخ ابن عساكر 6: 100، تفسير القرطبي 16: 432، 433، تفسير ابن كثير 2: 135، تفسير ابن جزي 2: 10، تفسير الدر المنثور 3: 13، تفسير الخازن 2: 18، تفسير الشربيني 1: 404، تفسير الشوكاني 2: 115.
2 - أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى 3: 108 ط ليدن من طريق عبد الله بن مسعود نزول قوله تعالى: الذين استجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " آل ب عمران 172 " في ثمانية عشر رجلا هو أحدهم.
وذكر ابن كثير والخازن في تفسيرهما: إن ابن مسعود ممن نزلت فيهم الآية.
3 - ذكر الشربيني والخازن نزول قوله تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة. في ابن مسعود وعمار وسلمان. يأتي تفصيله بعيد هذا في ترجمة عمار.
4 - عن علي عليه السلام مرفوعا: عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من أحد.
وفي لفظ: والذي نفسي بيده لهما (يعني ساقي ابن مسعود) أثقل في الميزان من أحد.
وفي لفظ: والذي نفسي بيده لساقا عبد الله يوم القيامة أشد وأعظم من أحد وحراء.
راجع مستدرك الحاكم 3: 317، حلية الأولياء 1: 127، الاستيعاب 1: 371، صفة الصفوة 1: 157، تاريخ ابن كثير 7: 163، الإصابة 2: 370، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 289، وقال: أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة، ورواه من طريق البزار والطبراني فقال: رجالهما رجال الصحيح. كنز العمال 6: 180، 181، ج 7: 55 نقلا عن الطبراني والضياء وابن خزيمة وصححه.
5 - عن علقمة وعمر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سره أن يقرأ القرآن غضا. أو: رطبا، كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.
أخرجه أبو عبيد في فضائله. أحمد. الترمذي. النسائي. البخاري في تاريخه. ابن أبي خزيمة. ابن أبي داود. ابن الأنباري. عبد الرزاق. ابن حبان. الدارقطني ابن عساكر. أبو نعيم. الضياء المقدسي. البزار. الطبراني. أبو يعلى. وغيرهم.
راجع سنن ابن ماجة 1: 63، حلية الأولياء 1: 124، مستدرك الحاكم 3: 318، الاستيعاب 1: 371، صفة الصفوة 1: 156، طرح التثريب 1: 85، الإصابة 2: 369، مجمع الزوائد 9: 287، كنز العمال 6: 181.
6 - عن أبي الدرداء مرفوعا في حديث: رضيت لأمتي ما رضي الله لها وابن أم عبد، وسخطت لأمتي ما سخط الله لها وابن أم عبد.
أخرجه البزار والطبراني ورجال البزار ثقات كما قاله الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 290، ورواه الحاكم في المستدرك 3: 317، 318 وأبو عمر في الاستيعاب 1: 371 ويوجد في كنز العمال 6: 181 و ج 7: 56.
7 - عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: آذنك على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي (6) حتى أنهاك. قال ابن حجر: أخرجه أصحاب الصحاح.
مسند أحمد 1: 388، سنن ابن ماجة 1: 63، حلية الأولياء 1: 126، الاستيعاب 1: 371، تاريخ ابن كثير 7: 162، الإصابة 2: 369.
8 - أخرج الترمذي من طريق عبد الله في حديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمسكوا بعهد ابن أم عبد.
وفي لفظ أحمد: تمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه.
راجع مسند أحمد 5: 385، حلية الأولياء 1: 128، تاريخ ابن كثير 2: 162، الإصابة 2: 369، كنز العمال 7: 55.
9 - سئل علي (أمير المؤمنين) عن ابن مسعود قال: علم القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفى به علما.
راجع حلية الأولياء لأبي نعيم 1: 129، المستدرك للحاكم 3: 318، الاستيعاب 1: 373، صفة الصفوة 1: 157.
10 - أخرج الحاكم في المستدرك 3: 315 من طريق حبة العرني قال: إن ناسا أتوا عليا فأثنوا على عبد الله بن مسعود فقال: أقول فيه مثل ما قالوا وأفضل: من قرأ القرآن وأحل حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة.
11 - أخرج الترمذي بإسناد رجاله ثقات من طريق حذيفة بن اليمان: إن أشبه الناس هديا ودلا وسمتا بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله.
وفي لفظ البخاري: ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد، وزاد الترمذي: ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى. وفي لفظ أبي نعيم: إنه من أقربهم وسيلة يوم القيمة. وفي لفظ أبي عمر: سمع حذيفة يحلف بالله ما أعلم أحدا أشبه دلا وهديا برسول الله من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة.
وفي لفظ علقمة: كان يشبه بالنبي في هديه ودله وسمته.
راجع صحيح البخاري كتاب المناقب. مسند أحمد 5: 389، المستدرك 3: 315، 320 حلية الأولياء 1: 126، 127، الاستيعاب 1: 372، مصابيح السنة 2: 283، صفة الصفوة 1: 156، 158، تاريخ ابن كثير 2: 162، تيسير الوصول 3: 297 الإصابة 2: 369، كنز العمال 7: 55.
12 - أخرج الشيخان والترمذي عن أبي موسى قال: قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نرى من دخوله و دخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم.
راجع المستدرك للحاكم 3: 314، مصابيح السنة: 2: 284، تيسير الوصول 3: 279 نقلا عن الشيخين والترمذي، تاريخ ابن كثير 7: 162، مرآة الجنان لليافعي 1: 87، الإصابة 8: 369 قال: عند البخاري في التاريخ بسند صحيح.
13 - أخرج أحمد في مسنده 4: 203 من طريق عمرو بن العاصي قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحب عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 290 بلفظ: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنه. حكاه عن أحمد والطبراني فقال. رجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه ابن عساكر من طريق عثمان بن أبي العاص الثقفي كما في كنز العمال: 7: 56.
14 - أخرج البخاري من طريق عبد الله بن مسعود قال: أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان. وفي لفظ: أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت وله ذؤابة يلعب مع الغلمان. وفي لفظ: ما ينازعني فيها أحد.
حلية الأولياء 1: 125، والاستيعاب 1: 373، تهذيب التهذيب 6: 28 وصححه كنز العمال 7: 56 نقلا عن ابن أبي داود.
15 - أخرج البغوي من طريق تميم بن حرام (7) قال: جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أحدا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أحب إلي أن أكون في صلاحه من ابن مسعود، الإصابة لابن حجر 2: 370.
وأخرجه البخاري في تاريخه 1 قسم 2 ص 152 ولفظه: أدركت أبي بكر وعمر وأصحاب محمد عليهم السلام فما رأيت أحدا. الخ.
16 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: كان عبد الله صاحب سواد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني سره.
وعن أبي الدرداء: ألم يكن فيكم صاحب السواد عبد الله؟.
وعن عبد الله بن شداد: إن عبد الله كان صاحب السواد والوساد والسواك والنعلين (8) راجع طبقات ابن سعد 3: 108، حلية الأولياء 1: 126، الاستيعاب 1: 371، صفة الصفوة 1: 156، طرح التثريب 1: 75.
17 - عن أبي وائل قال ابن مسعود: إني لأعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم و ما في كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ومتى نزلت. قال أبو وائل: فما سمعت أحدا أنكر ذلك عليه.
أخرجه الشيخان والنسائي كما في تيسير الوصول 3: 279، وأبو عمر في الاستيعاب 1: 372، وذكره اليافعي في مرآته 1: 87.

هذا ابن مسعود
وهذا علمه وهديه وسمته وصلاحه وزلفته إلى نبي العظمة صلى الله عليه وآله، أضف إلى ذلك كله سابقته في الاسلام وهو سادس ستة، وهجرته إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهوده بدرا ومشاهد النبي صلى الله عليه وآله كلها، وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة كما في رواية أبي عمر في الاستيعاب، ولعلك لا تشك بعد سيرك الحثيث في غضون السيرة والتاريخ في أنه لم يكن له دؤب إلا على نشر علم القرآن وسنة الرسول وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وتثبيت القلوب، وشد أزر الدين، في كل ذلك هو شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هديه و سمته ودله، فلا تجد فيه مغمزا لغامز، ولا محلا للمز لامز، وقد بعثه عمر إلى الكوفة ليعلمهم أمور دينهم، وبعث عمارا أميرا وكتب إليهم: إنهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (9) وقد سمعت ثناء أهل الكوفة عليه بقولهم: جزيت خيرا، فلقد علمت جاهلنا وثبت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل.
كان ابن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة، اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟
فقال عبد الله بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. رافعا بها صوته. الرحمن علم القرآن. قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: وتأملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن. ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون (10).
وقد هذبته تلكم الأحوال وكهربته، فلم يسق لمغضبة على باطل، ولم يحده طيش إلى غاية، فهو إن قال فعن هدى، وإن حدث فعن الصادع الكريم صدقا، وإن جال ففي مستوى الحق، وإن صال فعلى الضلالة، وعرفه بذلك من عرفه من أول يومه، وكان معظما مبجلا لدى الصحابة وكانوا يحذرون خلافه والرد عليه ويعدونه حوبا قال أبو وائل: إن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك. فقال: و أنت يا ابن مسعود! فارفع إزارك. فقال: إني لست مثلك إن بساقي حموشة وأنا آدم الناس فبلغ ذلك عمر فضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود؟ (11).
وأخرج أبو عمر بن الاستيعاب 1: 372 بالإسناد عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات فقال: جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يحكي المصحف عن ظهر قلبه فغضب عمر غضبا شديدا وقال: ويحك ومن هو؟ قال عبد الله بن مسعود. قال: فذهب عنه ذلك الغضب وسكن وعاد إلى حاله وقال: والله ما أعلم من الناس أحدا هو أحق بذلك منه.
فلماذا يحرم هذا البدري العظيم عطاؤه سنين؟ ثم يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهرا بالصلة فلا يقبلها ابن مسعود وهو في منصرم عمره، ويسأل ربه أن يأخذ له منه بحقه، ثم يتوجه إلى النعيم الخالد معرضا عن الحطام الزائل، موصيا بأن لا يصلي عليه من نال منه ذلك النيل الفجيع.
لماذا فعل به هذا؟ ولماذا شتم على رؤس الاشهاد؟ ولماذا أخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهانا عنفا، ولماذا ضرب به الأرض فدقت أضالعه؟ ولما بطشوا به بطش الجبارين؟.
كل ذلك لأنه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال الكوفة يوم كان عليه ما أمر به، فألق مفاتيح بيت المال لما لم يجد من الكتاب والسنة وهو العليم بهما مساغا لهاتيك الإباحة ولا لأثرة الآمر بها، وعلم أنها سوف تتبعها من الأعطيات التي لا يقرها كتاب ولا سنة، فتسلل عن عمله وتنصل، وما راقه أن يبوء بذلك الإثم، فلهج بما علم، وأبدى معاذيره في إلقاء المفاتيح، فغاض تلكم الأحوال داعية الشهوات، وشاخص الهوى الوليد بن عقبة، فكتب في حقه ونم وسعي، فكان من ولائد ذلك أن ارتكب من ابن مسعود ما عرفت، ولم تمنع عن ذلك سوابقه في الاسلام وفضائله وفواضله وعلمه وهديه وورعه ومعاذيره وحججه، فضلا على أن يشكر على ذلك كله، فأوجب نقمة الصحابة على من نال ذلك منه، وإنكار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وصيحة أم المؤمنين في خدرها، ولم تزل البغضاء محتدمة على هذه وأمثالها حتى كان في مغبة الأمر ما لم يحمده خليفة الوقت وزبانيته الذين جروا إليه الويلات.
ولو ضرب المسيطر على الأمر صفحا عن الفظاظة في الانتقام، أو أعار لنصح صلحاء الأمة أذنا واعية، أولم يستبدل بجراثيم الفتن عن محنكي الرجال، أولم ينبذ كتاب الله وسنة نبيه وراء ظهره، لما استقبله ما جرى عليه وعلى من اكتنفه من الوأد والهوان لكنه لم يفعل ففعلوا، ولمحكمة العدل الإلهي غدا حكمها البات.
ولابن مسعود عند القوم مظلمة أخرى وهي جلده أربعين سوطا في موقف آخر، لماذا كان ذلك؟ لأنه دفن أبا ذر لما حضر موته في حجته. وجد بالربذة في ذلك الوادي القفر الوعر ميتا كان في الغارب والسنام من العلم والإيمان.
وجد صحابيا عظيما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقربه ويدنيه قد فارق الدنيا.
وجد عالما من علماء المسلمين قد غادرته الحياة.
وجد مثالا للقداسة والتقوى، فتمثل أمام عينيه تلك الصورة المكبرة التي كان يشاهدها على العهد النبوي.
وجد شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة هديا وسمتا ونسكا وزهدا وخلقا، طرده خليفة الوقت عن عاصمة الاسلام.
وجد عزيزا من أعزاء الصحابة على الله ورسوله وعلى المؤمنين قد أودى على مستوى الهوان في قاعة المنفى مظلوما مضطهدا.
وجد في قارعة الطريق جثمان طيب طاهر غريب وحيد نازح عن الأوطان تصهره الشمس، وتسفي عليه الرياح، وذكر قول رسول الله: رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده، ويحشر وحده.
فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كل مسلم فضلا عن أبي ذر الذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الأخير والعيون عبرى، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الانسان المبجل، فلما هبطوا يثرب نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا كبيرا، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطا، وذلك أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطم جيفته فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم، وموئل التقوى، ومنبثق الإيمان، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا.
أي خليفة هذا لم يراع حرمة ولا كرامة لصلحاء الأمة وعظماء الصحابة من البدريين الذين نزل فيهم القرآن، وأثنى عليهم النبي العظيم؟ وقد جاء في مجرم بدري قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال عمر: إئذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه: مهلا يا ابن الخطاب إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: إعملوا ما شئتم فإني غافر لكم (12) واختلق القوم حديثا لإدخال عثمان في زمرتهم لفضلهم المتسالم عليه عند الأمة جمعاء، كأن الرجل آلى على نفسه أن يطل على الأمة الداعية إلى الخير، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، بالذل والهوان، ويسر بذلك سماسرة الأهواء من بني أبيه، فطفق بمراده، والله من ورائهم حسيب.
والمدافع إن أعوزته المعاذير تشبث بالطحلب فقال: (13) حداه إلى ذلك الاجتهاد. ذلك العذر العام المصحح للأباطيل، والمبرر للشنايع، والوسيلة المتخذة لإغراء بسطاء الأمة، وذلك قولهم بأفواهم، وإن ربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وإن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
____________
(1) هذه جملة من كلمة ابن مسعود وقد أخرجها برمتها أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 138 وهي كلمة قيمة فيها فوائد جمة.
(2) الاستيعاب 1: 373.
(3) قال ابن كثير في تاريخه 7: 163: كان قد تركه سنتين.
(4) كذا والصحيح كما في شرح ابن أبي الحديد 1: 236: فتمثل الزبير.
(5) المستدرك 3: 313، الاستيعاب 1: 373، تاريخ ابن كثير 7: 163.
(6) كذا في جميع المصادر والسواد بالكسر: السرار. يقال: ساودت الرجل أي ساورته. وحسبه ناشر حلية الأولياء غلطا فجعله في المتن " سرارى " وقال في التعليق: في الأصلين: سوادي.
(7) في تاريخ البخاري: حذلم.
(8) كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وآله ويحمل نعليه. قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب 6: 28.
(9) الاستيعاب 1: 373، ج 2 436، الإصابة 2: 369.
(10) سيرة ابن هشام 1: 337.
(11) الإصابة 2: 370، كنز العمال: 55.
(12) أحكام القرآن 3: 535.
(13) راجع التمهيد للباقلاني ص 221، الرياض النضرة 26 145، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس 2: 268.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page