منا شئ الغلوّ:
أمّا مناشئ الغلوّ فأبرزها وأهمها في نظرنا أربعة مناشئ، هي على التوالي:
المنشأ الأوّل: أن يغالي الإنسان بشخص أو فكرة; ليتخذ من ذلك ] مسوّغاً [لاختياره الانتماء لهذه الفكرة أو الشخص، فكأنـّه يريد مرجّحاً أمام الناس ومبرّراً نفسياً، ويتبلور هذا المعنى أكثر وأكثر في العقيدة بالأشخاص، فإنّ الأتباع يحاولون رفع مَنْ يعتقدون به إلى مستويات غير عادية، وهذا المعنى موجود على الصعيد الديني والسياسي، فقد وصف هوبز الحاكمَ: بأنـّه المعبّر عن إرادة الله وإرادة الشعب، ومنحه السلطة المطلقة في التصرّف، ولم يُعطِ الشعب حقّ عزله، واعتبر إرادته من إرادة الله تعالى. وقد ذهب فلاسفة الألمان نفس المذهب فيما خلعوه على الحكّام من صفات. وأشدّهم في ذلك: هيغل اُستاذ ماركس، فالمَلِك عند هيغل صاحب السلطة المطلقة، وله مركز مستقلّ عن مصالح الأفراد، وتتمثّل في شخصيته الذات النهائية، وهو مجموع الشعب مشخّص في واحد، وهو، وهو . . . إلى آخره .
وقد سبق هؤلاء جميعاً أفلاطون حين أعطى الحاكم منازل مقدّسة.
وكذلك الفارابي حيث صوّر رئيس المدينة بأنـّه متّصل بالعقل الفعّال حيث يقترب من الله تعالى([1]) .
إنّ كلّ هذه المواقف تبرير لاعتناق الفكرة بنحو وآخر يوجده تصوّر معيّن .
المنشأ الثاني: ردّ الفعل: فإنّ البعض قد يُضطهد من أجل معتقداته، وقد يُنتقص، أو يُشتم، أو يُهزأ به، فيدفعه كلّ ذلك إلى المغالاة بدافع ردّ الفعل، ولهذا رأينا القرآن الكريم في مثل هذه المواطن أخذ العوامل النفسية بعين الاعتبار، إذ يقول تعالى: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم)([2]) .
وهذه المسألة لها تطبيقاتها على أبعاد التاريخ في كثير من الموارد، ومن هنا ذهب دونالدسن: إلى أنّ القول بالعصمة هو ردّ فعل من الخلفاء الغاصبين([3]). وهو واهم بذلك.
وقد كان لردّة الفعل دور كبير في تأريخ المسلمين وعقائدهم، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند معالجة كثير من المواقف و] تقويم[ النصوص في مختلف الميادين .
المنشأ الثالث: هو الغلوّ الذي ينشأ من الطِيبة والبراءة وحُسن الظن بالآخرين، فَيُركن إلى مرويّاتهم من دون تمحيص، خصوصاً من الذين اندسّوا في الإسلام لسبب وآخر، وأرادوا تغطية حقيقتهم، فتحمّسوا تحمّساً مشبوهاً لأشخاص أو أفكار، وهذا المنشأ الحديث فيه طويل، فإنّ كثيراً من المندسّين لعبوا دوراً بارزاً في تسجيل نظريات ومواقف تنزع إلى الغلوّ، حتّى أفسدوا على كثير من المسلمين عقائدهم لمختلف الأهداف التي كانت تدفعهم، وقد كان لكلّ مذهب من المذاهب حصة من هؤلاء تكثر أو تقلّ تبعاً لظروف المذهب نفسه، وربّما يمرّ علينا هذا المعنى مفصّلا فيما يأتي .
المنشأ الرابع: عدم الدقّة: فقد يبتلي بعضهم بشبهات نتيجة فهم خاطئ، أو تعميم غير ] مسوغ [علمياً، كأن يرى رأياً لشخص من طائفة فيعمّم رأيه على الطائفة كلّها، وقد تذهب جماعة إلى رأي ثمّ تبيد ويبقى الرأي، فيأتي من يحمل الرأي للآخرين، قد يكون استنتاجاً لرأي من لازم من لوازم القول لم يتفطّن له صاحب القول نفسه، وقد يكون نتيجة خطأ في تطبيق ضابط من الضوابط الكلّية على بعض الجزئيات، وهكذا، ولذا لابـُدّ من التروّي والحذر الشديد عند الكتابة عن فئة أو طائفة، ولابـُدّ من أخذ رأيها من مصادرها المتسالم عليها، فإذا كان بعض الشيعة في يوم من الأيام غالى بالإمام عليٍّ(عليه السلام) لقلعه باب خيبر فليس كلّ الشيعة كذلك، وإذا كان شخص قال لعليٍّ وهو يخطب: أنت أنت فليس كلّ الشيعة كذلك .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] . نظرية الإِمامة : 135 فصاعداً .
[2] . الأنعام : 108 .
[3] . عقيدة الشيعة لدونالدسن : 228 .