الصفحة (168)
ترى لماذا نحيي في كلِّ عام شعائر الإسلام في ذكرى استشهاد أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؟ ولماذا تتجدد هذه الذكرى مع مرور السنين ، وتتسع في كل عام ، وتنتشر عبر آفاق جديدة ؟
هذا السؤال ليس سؤالاً فقهياً أو علمياً محضاً ، بل هو سؤال واقعي يعيشه كل إنسان مسلم . وللإجابة عليه نقول : إنّ هذه الواقعة يعيشها كل قلب ، وكل فطرة ، وكل نفس بشرية .
وقد طرح عليّ هذا التساؤل اثنان من المستشرقين الالمان قائلين : لماذا يتغيّر كل شيء عندكم أيها الشيعة إذا اقترب هلال محرم , لا بضغط من حكومة ، ولا بمال من غني ، ولا بإعلام قوي ، بل بشكل عفوي , في حين أنّكم تعتقدون بقول نبيكم (صلّى الله عليه وآله) : (( مداد العلماء خير من دماء الشهداء )) ، فلماذا ترفعون راية الحسين بينما يقرّر رسولكم أن مداد العلماء خير من دماء الشهداء ؟
سر خلود الثورة الحسينيّة
وعندما أجبتهما على هذا السؤال قلت لهما : أوّلاً : إنّ الحسين (عليه السّلام) ليس شخصاً ، بل هو قضية ، وقيمة ، ومدرسة ، ومنهج ، ومسيرة ؛
________________________________________
الصفحة (169)
فهو (عليه السّلام) كالنبي إبراهيم الذي كان يمثّل اُمّة ، وكان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين ؛ ولذلك فإنّ جميع أتباع الديانات السماوية يقدّسون هذا الرجل ؛ لانه جسّد قيمة التوحيد ، ورفع راية (لا إله إلاّ الله) , فتحوّل إلى قيمة ؛ ولذلك قرّر القرآن الكريم أنّه كان اُمّة ، واستجاب له الله سبحانه وتعالى عندما قال : (وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)(الشعراء/84) .
وكما أنّ إبراهيم (عليه السّلام) جسّد قيمة ، فإنّ الحسين (عليه السّلام) قد جسّد قيمة هو الآخر ؛ فقد استشهد في سبيل العدل والحق ، ومن أجل الدين والحرية . ومن المعلوم أنّ هذه القيم ثابتة ، فلا يمكن أن يأتي زمان لا نحتاج فيه إلى الدين والعدالة والحرية ؛ فالحق هو فلسفة الحياة ، بل هو الحياة نفسها , وبدونه لا يمكن ان تستمر . وكما أنّ قيمة الدين والعدالة والحرية والحقّ وسائر القيم المقدسة مستمرة ، فإنّ قضية الإمام الحسين (عليه السّلام) مستمرة هي الاُخرى .
وفي القسم الثاني من الإجابة قلت لذينك المستشرقين : إننا نعيش اليوم تحت راية أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، ونحن أتباع أهل البيت (عليهم السّلام) لا يمكن أن نعيش بدونه ؛ لأنّ العيش بدونه يعني العيش بدون قيم ، وبدون دين واستقلال .
أهمّية المواكب الحسينيّة
ونحن كنّا وما زلنا نقيم المواكب الحسينيّة في كلِّ عام ؛ ففي أيام الأربعين يتقاطر الشيعة على مدينة كربلاء لتتحوّل إلى موكب حسيني كبير ، وهذه المواكب هي الناطقة عن قضية الإمام الحسين (عليه السّلام)
________________________________________
الصفحة (170)
وقضايا الشيعة في العالم الإسلامي ؛ فعلى سبيل المثال اُعدم قبل خمسة وأربعين عاماً مسلم إيراني بسيف آل سعود ظلماً وعدواناً ، وفي تلك السنة حملت جميع المواكب الحسينيّة التي وفدت إلى كربلاء راية هذا الرجل ، وبعد فترة كان النظام البائد في إيران يضطهد العلماء , فكانت المواكب الحسينيّة في العراق تنادي بالدفاع عن علماء إيران ، وبعد فترة اُخرى حدثت مجزرة ضد الشيعة في لبنان , فما كان من المواكب الشيعية في العراق إلاّ أن نادت بالدفاع عن الشيعة في لبنان .
وأنا اُوجّه كلامي هنا إلى اُولئك الذين يلوموننا على بكائنا في يوم عاشوراء , فأقول لهم : إنّنا نبكي بكاء الأبطال ، ولكي نصبح حسينيين . فمثل هذه الشعائر هي التي حافظت على الإسلام ، بلى هي التي حافظت علينا ـ نحن الشيعة ـ على مرّ التاريخ رغم كثافة المشاكل المحيطة بنا .
وهكذا فإنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) كانت قضية فأصبحت قيمة ، وكانت واقعة فتحولت إلى راية . وكل إنسان في هذا العالم يريد أن يدافع عن قيمه وقضيّته وظلامته لا بدّ أن ينضوي تحت هذه الراية المقدّسة .
الشعائر الحسينيّة والأنظمة الطاغوتيّة
وقد أدركت الحكومة الطاغوتيّة عمق هذه الشعائر ؛ ولذلك فإنّها عمدت وتعمد إلى محاربة الشعائر الدينية للشيعة ، فهي تريد ـ في الحقيقة ـ أن تعزل الشيعة عن تأريخهم .
ففي كلِّ عام تهتدي الآلاف المؤلّفة من البشر بفضل الحسين (عليه السّلام) ؛ ولذلك فإنّ الحكومات تحرص على محاربة هذه المجالس التي يجب أن نحافظ عليها بأي شكل من الأشكال لكي تستمر المسيرة والنهضة ؛ ذلك لأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام)
________________________________________
الصفحة (171)
استشهد ، وباستشهاده في كربلاء أثبت أنّ الظلامة التي ارتكبت بحقِّ أهل البيت (عليهم السّلام) كانت حقيقية .
تعظيم شعائر الله
وهكذا فإنّ الشعائر باقية ومستمرة ، فالله سبحانه وتعالى يقول : (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج/ 32) .
وهنا اُريد أن أتوقّف عند كلمتين في تفسير هذه الآية الكريمة المقتطفة من سورة الحج ؛ الكلمة الاُولى هي (الشعائر) التي هي جمع شعيرة ، وهي كل عمل يشعرك بشيء ؛ فقد كانوا يأتون بالإبل إلى مكّة المكرّمة بعد أن يشعروها ـ أي يلطّخوها بشيء من الدم ـ , أو يقلّدوها بشيء يشعر أنّها قرابين في سبيل الله تعالى ؛ لكي يتجمّع عليها الفقراء والمساكين وينالوا نصيبهم منها .
والقرآن الكريم يصف هذا العمل بقوله تعالى : (مِن شَعَآئِرِ اللَّه)(الحج/36) , أي إنّ هذه القرابين خالصة لله سبحانه ولا شأن لأحد بها ؛ وعلى هذا فإنّ الشعائر تنطبق على كل ما يعظّمه الإنسان شريطة أن لا يكون حراماً .
ويحذّر القرآن الكريم في قوله تعالى : (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) من أن تفرغ الشعيرة من محتواها ؛ لأنّها يجب أن ترسّخ التقوى ـ التي هي الكلمة الثانية التي نريد التحدث عنه ـ في النفس , فيجب أن نخلص النية في أدائها تماماً كالصلاة التي تكون باطلة إذا ما انعدمت منها النية ؛ لأنّ النية هي إطار ومحتوى الصلاة بالإضافة إلى ذكر الله تعالى وخشوع القلب .
وهكذا الحال بالنسبة إلى الشعائر الحسينيّة ، فلنعمل من أجل ان تتحوّل هذه الشعائر إلى مدرسة تربوية للمجتمع .
________________________________________
الصفحة (172)
وهنا أطرح بعض الاقتراحات في مجال تطوير الشعائر الحسينيّة وإغنائها , وهي :
1 ـ فهم شخصية الحسين (عليه السّلام) من خلال كلماته
علينا أن نفهم الحسين (عليه السّلام) من خلال كلماته ؛ فقد كان (عليه السّلام) إماماً ناطقاً ، وكان من أعظم ما تكلّم به دعاؤه في يوم عرفة , هذا الدعاء الغنيّ بالمعاني العرفانية , والذي يقول من جملة ما يقول فيه : (( الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ، ولا لعطائه مانع ، ولا كصنعه صنع صانع ، وهو الجواد الواسع . فطر أجناس البدائع ، وأتقن بحكمته الصنائع ، لا تخفى عليه الطلائع ، ولا تضيع عنده الودائع ، جازي كل صانع ، ورائش كل قانع ، وراحم كل ضارع ، منزل المنافع ، والكتاب الجامع بالنور الساطع ... ))(1) .
فلنتأمل هذه الفقرة ، ولننظر كيف يعرّف الإمام الحسين (عليه السّلام) ربه (عزّ وجلّ) بكلمات مضيئة تفيض توحيداً وإخلاصاً .
وأمّا عن كلامه في النبوّة والإمامة فيقول (عليه السّلام) : (( إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق … ومثلي لا يبايع مثله ))(2) .
ومن جملة كلامه (عليه السّلام) في الموت قوله : (( خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة ))(3) .
ــــــــــــــــ
(1) مفاتيح الجنان ـ دعاء الإمام الحسين يوم عرفة .
(2) حياة الإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) ـ القرشي 2 / 255 .
(3) بحار الأنوار 44 / 366 .
________________________________________
الصفحة (173)
2 ـ تخريج الخطباء
إنّنا نمتلك ـ والحمد لله ـ حوزات علمية ، وقد حافظت هذه الحوزات على استقلالها وحيويتها على مدى العصور ، ولكن هذه الحوزات تخرّج العلماء والمراجع الكبار في الغالب ، وعلينا أن نفتح إلى جانب هذه الحوزات أو داخلها تخصّص للخطباء ؛ لكي يتلقّى الطالب في الحوزة دروس الخطابة .
3 ـ إقامة المؤتمرات
إنّ شهر محرم هو بالنسبة إلينا الرأسمال الوحيد ، فإذا لم نقم المجالس في شهر عاشوراء من كلِّ عام فسوف لا نمتلك برنامجاً للأعوام القادمة ، فلماذا إذاً لا نقيم مؤتمرات للخطباء ؛ كأن يجتمعوا قبيل حلول شهر محرم في كلِّ عام ليتبادلوا الأفكار والآراء بينهم بشأن تطوير المجالس الحسينيّة ؟
4 ـ دور المشرفين على الحسينيّات والمواكب
إنّ المشرفين على المجالس والحسينيّات والمواكب عليهم بدورهم أن يعقدوا الاجتماعات على مدار السنة ؛ لكي يدرسوا ويصدروا القرارات بشأن بناء الحسينيّات ، وجمع التبرعات ، والإتيان بالخطباء الجدد الذين من شأنهم أن يسهموا في تزويد المسلمين بأفكار جديدة .
5 ـ دور المثقّفين
وهنا اُوجّه كلامي إلى المثقفين ، وأدعو كل واحد منهم إلى أن يبثّوا بين الناس من خلال كلماتهم وكتبهم ومقالاتهم كلَّ ما هو جديد ومفيد عن الثورة الحسينيّة .
________________________________________
الصفحة (174)
ضرورة تطوير الأساليب
وعلى هذا فإنّ علينا أن نعمل جاهدين من أجل أن نطوّر أساليبنا من ناحية المحتوى ، وهذه هي إحدى مسؤولياتنا الكبرى .
فمن المتعيّن علينا أن ندعو إلى المجالس الحسينيّة , وأن نحرص على أن يحضرها عدد كبير من الناس ؛ وذلك من خلال تطوير الأساليب ، وتزويد الشعائر الحسينيّة بالمحتوى الذي يجب أن يكون تجسيداً لمدرسة الحسين (عليه السّلام) التي هي مدرسة القيم والتقوى .
ومن الجدير بالذكر هنا أنّ المجالس الحسينيّة يجب أن تكون اللسان المعبّر والناطق عن مشاكلنا وآلامنا وقضايانا , أي أن نُعطي لهذه الشعائر محتوىً حضارياً مرتبطاً بالزمان ؛ ذلك لأن شيعة الحسين (عليه السّلام) لا بدّ أن يسيروا في خطه ، وأن يترجم الواحد منهم قوله إلى واقع عملي وهو يقف امام ضريحه (عليه السّلام) ويردّد : (( إنّي سِلمٌ لمن سالمكم , وحربٌ لمَن حاربكم , ووليٌّ لمَن والاكم , وعدوٌ لمَن عاداكم ))(1) .
فنحن نسير في خطّه (عليه السّلام) ، ونمثل تكتّلاً واحداً تحت رايته التي لا بدّ أن تقودنا إلى الجنة كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف : (( أوسع الأبواب في القيامة باب أبي عبد الله الحسين )) .
ـــــــــــــ
(1) مفاتيح الجنان ـ زيارة الإمام الحسين (عليه السّلام) في يوم عاشوراء / 457 .
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين
الشعائر الحسينيّة اُسلوباً ومحتوىً
- الزيارات: 3295